في عام 1985، كنت طالباً في الفرقة الثالثة بالكلية الحربية، على أعتاب اجتياز فرقة المظلات. لم يكن هذا مجرد تدريب، بل كان اختباراً قاسياً للبدن والروح، يصنع إرادة المقاتل ويصقل معدنه. كانت الأيام الأولى مليئة بالحماس والجهد الذي يغرس فينا معاني البطولة والتضحية.
لكن القدر لم يشأ أن تمر المرحلة بسلام، فقد تعرضت لإصابة قوية في قدمي أثناء التدريب. كان الألم شديداً، وشعرت حينها أن حلمي بالحصول على شارة المظلات قد يتبدد، وأن القفزة الأخيرة لن تكون من نصيبي. أيام من القلق والخوف عشتها، كنت أصارع الألم الجسدي ورهبة ضياع الهدف، وشعرت أن روحي تقف على حافة الانهيار.
في الميدان، الكلمة الفصل هي "الفريق". لم يتركني زملائي لحظة واحدة؛ كان موقفهم درساً في الإخلاص لن أنساه. لقد شدوا من أزري، وواسوْني، وحملوا عني جزءاً من المعاناة، مؤكدين لي أن ما بدأته يجب أن يكتمل.
تلك الروح الجماعية كانت السند الحقيقي الذي لا يُعلّم بالكتب، بل يُختبر في أصعب المواقف. دعمهم حوّل الألم إلى وقود لمواصلة التدريب رغم الإصابة.
وسط هذا الوضع القاسي، لفت انتباهي النقيب محمد عبدالنور الشيخ. لم يكن قائدي المباشر، لكنه كان يتمتع بإنسانية نادرة. رآني أتدرب بصعوبة وقلق، فاقترب مني.
طمأنني بكلمات بسيطة لكنها صادقة: "الله لا يضيع أجر من صبر واجتهد، ومثابرتك لن تذهب هباءً." كانت كلماته وقوداً أضاء عزيمتي وأعاد لي ثقتي بنفسي. وقتها، كان النقيب محمد رياضيًا فذًّا في الإسكواش وعضواً في فريق القفز الحر، يجمع بين الصرامة والانضباط الذهني واللياقة العالية. لقد أصبح في نظري نموذجاً للقائد الذي يوازن بين الاحتراف والرحمة.
لا يمكن أن تمر تلك المحطة دون ذكر استشهاد النقيب محسن، أحد معلمينا وقدوتنا المحبوبين. كان دمث الخلق، دائم الابتسامة، وقريباً من قلوبنا جميعاً.
قبل قفزته الأخيرة مباشرة، كان يحدّثنا بفرح عن مولوده الجديد ووعدنا بـ "السبوع" بعد انتهاء الفرقة. لكن مشيئة الله قضت أن تكون تلك هي آخر قفزة له في الدنيا؛ لم تُفتح مظلته بالكامل، وسقط أمام أعيننا في مشهد مهيب.
كان وقع الحادث علينا عظيماً، وزادت قسوته لأن القفزة النهائية كانت في اليوم التالي. ليلة كاملة عشناها بين الأسى والحزن والخوف، خاصة وأنا ما زلت أقاوم ألم قدمي. لكن صباح اليوم التالي، أيقظنا إصرار أقوى من الألم. كان علينا أن نُكمل الفرقة وفاءً لروح الشهيد الذي علّمنا معنى التضحية حتى آخر نفس.
عندما حانت لحظة القفزة الأخيرة، كانت هي الفيصل بين حلم أوشك على الضياع وإنجاز لا يُنسى. رغم أن قدمي كانت لا تزال تؤلمني، كانت تلك القفزة أسهل وأجمل قفزة نفذتها في حياتي.
شعرت وقتها كأنها مكافأة إلهية على الصبر والثبات والعزيمة التي تحدّت الألم. كانت قفزة إيمان قبل أن تكون قفزة في الهواء؛ قفزة من الخوف إلى الطمأنينة، ومن الألم إلى شرف الإنجاز. أيقنت حينها أن الصبر على البلاء طريق للعطاء.
مرت السنوات الطويلة، ثم شاءت الأقدار أن يجمعني العمل مرة أخرى بالنقيب محمد عبدالنور الشيخ، ليصبح رئيسي المباشر في إحدى الجهات الأمنية. كانت صدفة نادرة وجميلة.
تحت قيادته، تعلمت أن القيادة ليست رتبة، بل رسالة ومسؤولية. لقد كان مثالاً للقائد الذي يرعى مرؤوسيه ويوجههم باحترام ورقِي، وعلمني أن النجاح الحقيقي هو أن تزرع أثراً طيباً في نفوس من تعمل معهم، وأن الخلق يأتي قبل الخبرة والسلاح.
الخاتمة: إنها محطة لم تكن مجرد تدريب عسكري، بل كانت تجربة روحية صاغت شخصيتي، وأكدت لي أن التحدي يولد النجاح، وأن الإصرار والمثابرة هما شرف المقاتل وعلامة العبور نحو التميز.

إرسال تعليق