لواء/ د. أحمد زغلول مهران يكتب: الأم المصرية هي القوة الاستراتيجية الصامتة وصانعة هوية الوطن



لم تكن أغنية "ابني حبيبي يا نور عيني" مجرد كلمات عاطفية، بل هي وثيقة وطنية خالدة تجسد أعظم قصص العشق والتضحية. إن أم البطل ليست شخصية درامية عابرة، بل هي الحقيقة الاستراتيجية التي تفسر صمود هذا الوطن. فالأمم لا تُبنى بقرارات فقط، بل برجال ونساء غذتهم أمهات على المجد، وسقتهن الشجاعة من طُهر حليبها، ورسمن لهن طريق البطولة بنظرة راضية ودمعة إشفاق.


في هذا المقال، نحن لا نرى الأم مجرد رمز عاطفي، بل هي الأصل في تكوين الدولة، والبنية التحتية للهوية الوطنية، والمُحرك الاستراتيجي لإنتاج الإنسان القادر على حماية وطنه وبنائه في آن واحد.


الأم عبر التاريخ: من إيزيس إلى أم الشهيد

مفهوم الأمومة في الوعي المصري لم يكن يوماً مجرد حالة بيولوجية، بل هو قوة كونية تُنظّم الوجود وتبعث الحياة من قلب التحديات.


في الحضارة القديمة

إيزيس لم تكن مجرد إلهة، بل تجسيد للمرأة القادرة على مواجهة الشر. هي من جمعت أشلاء زوجها وأنجبت ابنها (حورس) ليعيد العدل والنظام إلى الأرض. تلك كانت أول رواية وطنية تُسرد ويصنع أبطالها عبر أم.


في التاريخ الإسلامي والحديث

الأم المصرية كانت دائماً في قلب الحدث. خرجت تهتف بالحرية في ثورة 1919، وودّعت أبناءها بزغرودة في حرب 1973، وحبست دموعها حتى تحقق النصر. واليوم، تصمد أمهات الشهداء أمام رصاص الإرهاب، حاملات راية الوطن بصبر لا يُقاس.


الأم: نواة البنية الوطنية ومُؤسسة القيم

أي منظومة دولة ناجحة تبدأ من الإنسان، والإنسان يبدأ من البيت، والبيت يبدأ من الأم. في كل جهاز وطني صلب، وفي كل مرفق تنموي ناجح، هناك أم لم تظهر في الصورة لكنها صمّمت النموذج الأول لطفل صار يوماً ما مسؤولاً أو طبيباً أو عالماً أو شهيداً.


الوظائف الاستراتيجية للأم تشمل:

1. مُؤسِسة القيم: هي من تغرس الصدق، الشجاعة، والالتزام والانتماء في مراحل النمو الأولى.

2. حارس الهوية: تقف في معركة الوعي الصامتة لتقاوم الغزو الثقافي والإعلامي المُغرض، وتُحصّن عقول أبنائها بحنانها وفكرها.

3. مُداوية الانكسارات: تُداوي الانكسارات العاطفية والنفسية، وتعلّم طفلها كيف يفرق بين الصواب والخطأ قبل أن ينطق.


بطولات لا تُدرج: الأم العاملة والأم المعيلة

ليست البطولة حكراً على ساحات الحرب. فالأم المصرية تؤدي أكثر من وظيفة يوميًا، ولا تُدرج في كشوف الأبطال القوميين رغم أنها تستحق وساماً وطنياً عن كل يوم تعيشه.


شموخ أم الشهيد في لحظة الفداء

بطولة الأم التي تقف أمام جثمان ابنها وتقول: "أنا ربيت راجل ما متشي، ده سابقنا للجنة!". هذه الجملة ليست مجرد عزاء، بل هي صفعة على وجه الخوف ورسالة للأجيال بأن الدماء الطاهرة تُسال من أجل تراب هذا الوطن.


الأم المعيلة.. سيدة بألف رجل

هي التي تخرج فجراً لتعمل، وتعود ظهراً لتحضر الغداء، وتُذاكر لأبنائها وتُرمم أحلامهم. هي التي تُسقط اللقمة من فمها لتطعم أبناءها، وتؤجل احتياجاتها ليكبروا هم بكرامة وعزة.


بطلات الجبهات الصامتة

في أزمة مثل "كورونا"، وقفن الطبيبات والممرضات كأمهات قبل أن يكن عاملات، يواجهن الموت في الصف الأول، ويعدن إلى بيوتهن ليربّين أطفالهن دون إظهار لحظة ضعف. وفي المدارس، نجد آلاف المعلمات يربين أبناء غير أبنائهن ويغرسن فيهم حب الوطن والانضباط.


رؤية استراتيجية: دعم الأم كجزء من الأمن القومي

الاستثمار في الأم هو استثمار في كل جبهة من جبهات التنمية والدفاع. لا يمكن لدولة أن تحقق نهضتها دون أن تُعيد الاعتبار للأم بصفتها اللبنة الأولى في بناء القوة البشرية.


مقترحات لدمج الأم في التخطيط القومي:

1. برامج الدعم النفسي: توفير رعاية نفسية متكاملة لأمهات الشهداء والمصابين وذوي الهمم.

2. مشروع قومي "أم تبني وطن": إطلاق ورش ومبادرات تُعيد بناء دور الأم في تربية القيم وتحويل البيت إلى مدرسة للانتماء.

3. التمكين الاقتصادي الموجه: دعم مباشر للأم المعيلة والمربية والمُدرسة بحوافز ومشروعات صغيرة، بوصفهن عنصراً حاسماً في الأمن الاجتماعي.

4. إدماج قصص الأمهات البطلات: يجب أن يرى الطفل صورة أمه البطلة في المناهج الدراسية، ليشعر أن البطولة ليست خارج البيت فقط، بل تنبض في قلب أسرته.

عهد لـ "صانعة الوجدان"

حين تضع الدولة الأم في قلب سياساتها، فإنها تُؤسس لقاعدة راسخة من الولاء والانتماء، وتُجنّب نفسها عقوداً من الانهيارات النفسية والاجتماعية التي تكلّف الأوطان ما لا تُطيق.


إليكِ، أيتها الأم العظيمة، نُدين لكِ بكل شيء، ليس لأنك فقط أم، بل لأنك صانعة ومُهندسة ووطنية بالفطرة. أنتِ من خرّجتِ جيوشاً من الشرفاء وعلّمتِ أن الوطن لا يُباع.


ويا شباب الوطن، إذا أردتم نهضة حقيقية، فأعيدوا للأم قدسيتها في عقولكم وقلوبكم، فمن يُحب أمّه بحق لن يخون وطنه أبداً.

Post a Comment

أحدث أقدم