بأسلوبه الرشيق، سطر سيد قطب أسفاره الكثيره في شتى فنون العلم والحياة،
ولا شك أن من تبحر في ذخائره ولمح تلك البصيرة التي تمتع بها هذا الكاتب الفذّ في تناول المواضيع الأكثر أهمية وحساسية في عصره والتي لا زالت أهميتها تمتد
ربما الي يومنا هذا
واليوم أسلط الضوء على موضوع احتل قسما كبيرا من أفكار وكتابات ذلك العلامه
ونلقي نظره سريعه علي آراءه وخبراته خلال رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية
والتي تجلت فيها عبقريته في السرد والمزج
لقد نجح قطب في إخضاع حروفه لسبر أغوار هذه القضيه فخرج بنتائج
أجمع على صحتها كل باحث عن الحقيقة عرف أمريكا عن قرب
ولعل أبرز ما كتبه في هذا الصدد ، ثلاث مقالات نشرها في مجلة “الرساله بعنوان “أمريكا التي رأيت في ميزان القيم الإنسانية” وهي ليست الوحيدة بل توالت شهاداته
التي رصد فيها كل ما يجول بخاطره حول أمريكا وحقيقتها
، ولكن الكتاب فُقد بعد حملة اعتقالات كانت تطال الناشطين في الدعوة خلال تلك الحقبة والتي باالتالي كان لقطب نصيب منها
وهو ما دفعه لإخفاء نسخته عند أحد أصدقائه
والذي اضطر صديقه بدوره إلى حرقها خشية أن يسجن.
وتتميز كتابات قطب عن الولايات المتحده بحرصه الشديد على دراسة المجتمع الأمريكي والظاهرة الأمريكية وتحليلها
دراسة متخصصة متأنيه تعتمد علي الفحص الشامل والنظرة المتعمقة والتحليل الصائب من رجل عاشر القوم ونزل بديارهم
لاشك أن نظرة قطب لأمريكا تتفق مع شريحة كبيرة ممن تعايشو وانصهرو في المجتمع الأمريكي
ولكن في المقابل يوجد مايزال منبهرا بهذه الدولة المهيمنة على النظام العالمي منذ عقود طويله.
مخدوعين بقوة أمريكا المادية والمهزومين نفسيا أمام تقدمها العسكري ، والمنبهرين بسياساتها وسيطراتها وتفوقها،
والمتأثرين بمنهاج حياة شعبها. يروّجون للثقافة الأمريكية
ﻭينشرون دعايتها وزخارفها وأباطيلها فلا يعكسون الرؤيا الحقيقيه
ينقلون صورة تبعية سلبيّة مكرره خاضعة مستسلمه
لأكثر قوة هيمنت على الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين
وأرغمت حكوماتها للأنصياغ لسياساتها ومصالحها استعباد من نوع جديد تمكنت خلاله من السيطرة على المنطقة برمتها واحتواءها في أغلب المجالات.
حضارة مادّية وضعف روحي وإيماني
نعم تتميز أمريكا بتلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي
. وبتلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، و القوى البشريه
والاف المصانع الضخمة التي لم تعرف الحضارة لها مثيل في شتي المجالات
. ذلك النتاج الهائل الذي يعيا علي أحد احصائه أو حصره
أيضا المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث
والمعامل والمتاحف المنتشره في كل مكان. وعبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. معا
يسبحون في بحر من الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. لذلك لقبت بأرض الأحلام
ولكنها رغم كل هذه الأمكانيات لم تزل أمريكا فاشلة في تحقيق رصيد محترم في ميزان القيم الإنسانية ولم تضف إلى رصيد البشرية إلا مزيدا من الحروب والدمار والعنصريه .
سنجد في كتابات قطب المختلفة ﺍﻻﺴﺘﺸﻬﺎﺩ بالواقع الأمريكي ﻋﻠﻰ الجاهلية ﻭﻓﺴﺎﺩﻫﺎ ﻭانحلالها
وربما إباحيتها.. وتبيان إعجاز القرآن في توصيف الواقع المعاصر وخاصة تلك السنن البشرية التي تتكرر مع الظالمين.
مثلا في تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيئ) باعتبار أمريكا نموذج واقعي لتجسيد الآيه الكريمه
وتنبأ مقدما بما وصلت اليه أمريكا اليوم
أما من أمثلة الواقع الأمريكي ما تم ذكره عن الروابط الاجتماعية والفضائل الأخلاقية المنحله
والقيم الإنسانية التي يتشدق بها دوما المجتمع الأمريكي
، وحسب شهادته التي طالت كل شئ ولم ينجو منها أحد
تعرض لنماذج وأفراد وشرائح بشرية مختلفة، وصفها قطب
بأنها الحيوانيه المادية في أبشع صورها
جريمة … لا تغتفر
ولا تستحق عطفا ولا عونا… والمبادئ والأخلاقيات التي يروجون لها ماهي إلا قناع
، وخرافة في ضمير الأمريكي لا يتذوق لها طعما
…شعارهم كن قويا ولك كل شيء، لامكان للضعفاء
لقد رأى قطب الأمريكيين عن قرب ووصفهم قائلا:
ولم أري في تلك المساحات الشاسعة من الأراضي المتراميه الأطراف
وجها إنسانيا يعبر عن معنى الإنسان، ولم ألمح
نظرة إنسانية في عيون وقحه
ولكني وجدت القطيع في كل مكان.
كما وثّق اضطراب النفس عند الأمريكيين وتسابقهم في صراع البقاء وتميّزهم بشهوة الحرب
قائلا هم قوم نشأوعلى فكرة الحرب والصراع،
تجري في دمائهم ظاهره في سلوكياتهم
، وهذا ما أكّده التاريخ مرارا، وتكرارا منذ ظهور هذه البلاد على خريطة العالم
، قد ولدت نشأه أمريكا من فكرة الاستعمار الذي بدأ بالأفواج الأوروبية الأولى التي وصلت إلى العالم الجديد
ثم بدأت تقتتل فيما بينهم لينتقلوا بعد ذلك إلي مرحله قتال سكان الأرض الأصليين الهنود الحمر
“ والتي لا تزال رائحه إبادتهم تذكم الأنوف حتي الآن
وقاتل العنصر الأنجلوسكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية
ثم حارب المتأمركون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التدمير بقيادة جورج واشنطن حتى استقلوا عن التاج البريطاني
. ولا زال الواقع ذاته إلى يومنا هذا، فما من حرب تقوم إلا ويد أمريكا ملوثه فيها بالدماء
صدرت للعالم العنصرية والاستعباد في أبشع وأقبح صور
هناك الزنوج العبيد
المكبلين بالسلاسل خلقو ليخدموا “الرجل الأبيض” المتعجرف! وليذوقوا مراره الذل
لقد كشف قطب تلك البدائية في النظرة للدين والجنس والرياضة والألعاب والأمزجة والأذواق.
ووصفها إنها بدائية شملت جميع المجالات بدرجات مختلفة.
يقول قضيت عاما في تلك “الورشة الضخمة التي يسمونها “العالم الجديد” وتنقلت من نيويورك إلى واشنطن إلى دنفر ثم جريلي”..” وإنه ليبدو لي أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج،
بحيث لم يتبقي منها شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى.
ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور
و لم يحفظ المجتمع توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ
و أطلق للحيوان الكامن داخله العنان؛
وهذا ما جعل شعب أمريكا يتميز بظاهرة منفردة، حيث بلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي
وهذه البدائية طالت حتى الألعاب الأمريكية،
يقول يبدو الأمريكي بدائيا في الإعجاب بالقوى العضلية، و المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل باالمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، والعائلية،
ويتطرق في الحديث عن دائرة العمل بأنواعه المختلفه، وصلته باالأقتصاد والمال
ويتعجب من منظر الجماهير وهي تتابع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها أي نصيب،
ويصف قطب تلك الجماهير
قائلا بأنها تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية. المبنيه علي المراهانات أشبه باالهياج الحيواني
واعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله،
وبمثل هذه الروح العدوانيه
يتابع الأمريكي صراع الجماعات والطوائف
، ولا أدري كيف اقنعت العالم وبخاصة الشرق بهذه الخرافة وأن الشعب الأمريكي محب للسلام!
وتحدّث عن الدين النصراني هناك:
، والكنائس التي تشيّد بكثرة ويرتادها الأمريكيون في ليله الأحد ومظاهر العبادة،
ماهي إلا جلسات
يجتمع فيها الرواد للتسلية والأنس وقضاء الأوقات
وكيف أنّ الجنس والشذوذ منتشر في المجتمع الأمريكي
ويكفي الفضائح الجنسية التي طات القسيسين والرهبان
و أسماء لامعة لندرك مدى هوان العقيدة في قلوبهم. أما شبابهم فيعيش في دوامة من المغريات تتلاعب به
حتي يبقى أسير شهواته فظهر الشذوذ والتخبط اللامحدود
وتفشت الأمراض الجنسية والمشاكل النفسية وإدمان الخمر والمخدرات وازدياد معدلات الطلاق والجريمة والاغتصاب، وارتفعت نسب الانتحار.
ويسترسل قائلا نعم هذه حقيقة ألأكذوبه الأمريكيه.. ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما يشغل من الأرض رقعته الفسيحة،
أيضا لانتغافل عن دور السينما الأمريكية التي تغلب عليها الانفعالات والجريمة البوليسية وأفلام رعاة البقر، و يظهر فيها الرجل الأبيض السيد دوما دائما منتصر
ماضيهم نسخه كربونيه
من حاضرهم
سواء في ماضي هذا الشعب أوحاضره والأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:
ففي أمريكا ولد الإنسان على مائده العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاصه، هو العلم التطبيقي؛ الذي كان خير عون له في الجهد والتنظيم والإنتاج
و لا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في تحريره من قيوده وتقاليده
ايضا الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد
. ما هي الا مجموعات من المغامرين، المجرمين؛
جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج
ويبدو أن القيم الروحية والإيمانيه ليس لها مكان مع تلك الحضارة المادية:
كل شيء في أمريكا مثير ومستفز
بالرغم من توافر كل وسائل الحياة المريحة، وضماناتها
أمريكا تقدم نفسها للعالم على رأس الهرم الأخلاقي
كا نموذج للفضائل والمزايا المادية
والإنسانية بينما هي تخدعه ولا يستجيب لها الا المنخدعون، ولهذا توظف لدعايتها الآلة الإعلامية الضخمة
وتجند العديد من المؤسسات الإعلامية والقنوات وشركات صناعة الأفلام التي لديها تمويل فيّاض من الأموال من أجل تقديم الصورة المفبركة والمضللة التي يتم تصديرها للعالم
، أضف لذلك جيشا من العملاء في مختلف بلدان العالم وظيفتهم إخضاع النفوس لهيمنة أمريكا وتقبلها واقعا لا فرار منه.
إن المشاهدات العميقة لواقع الأمريكيين تجعلنا نري أن أمريكا تعيش عقوبة الفطرة الربانية،
التي لحقت بها بعد أن استكبرت في الأرض بغير حق وبدت الآن في طريقها إلى النهاية كا الذي سبقوها من دول الاستكبار والطغيان.
إن كشف الغطاء عن الوجه القبيح للغطرسة الأمريكية وتسليط الضوء على دناءة المبادئ التي تتخبط في وحلها وتتشدق بها دوما
لابد أن يوقظ الضمير في نفوس المسلمين، حتي يكفو عن الإعجاب والتقديس لهؤلاء
المستعمرين ، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، وندرك مدى الكيد الذي يكيده لنا ذلك الأمريكي
الذي يستغلنا ويستغل أوطاننا استغلالا شنيعاً، فإننا بتمجيدنا لهم
إنما نمجد مثالاً مشوهاً للإنسان، ونقيم تمثالاً للجشع والطمع والسلب والنهب والاحتيال.
ويكمل قطب نقده لأمريكا
ويصف كل قلم يمجد أمريكا. . ماهو الا قلم منخوب الروح مسلوب الأراده
صاحبه، محتل القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها.
إنني لا أكاد أتصور أن هناك إنسانا له مشاعر الإنسان يرى (الرجل الأبيض)
يدوس بأقدامه على أعناقنا في كل مكان ثم يجد نفسه قادراً على تمجيده
أو حتى مصادقته إنني أشك في آدمية هؤلاء الكتاب،
لأن أول مميزات الإنسان أن يحس بكرامة الإنسان… أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تضطرنا إلى التعامل معهم
في إطار التمثيل السياسي والقنصلي، وما الي ذلك من مبادلات تجاريه وأنشطة اقتصاديه مع هؤلاء المستعمرين
.. أما عن تبادل العواطف والمشاعر، و التحدث عن المآثر والمفاخر
ماهو الا مهانه ومذله
وتصور للمسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة
في أقذر صورها و يهوي باالبشريه
إلى الدرك السحيق من الهوان
… من لا يحتقر أمريكا ويحقر معها آدمية الأمريكي المستعمر لايستحق العروبه
ويختتم قطب مقاله
أمريكا نموذج مجسد للمادية والجاهلية والكفر والانحلال،
ولا يمكن أن تجلب خيرا لبلاد الإسلام، ولا يدرك عمق هذه المعاني إلا من عايشها في قلب حضارتها الهشّة المنهارة.
وإن كثيرا من الناس ممن حملوا لواء الدفاع عن الإسلام وما آمنوا حق الإيمان أن دين الله هو الحق في هذه الأرض، إلا بعد أن وطأت أقدامهم أرض الصلف والكبر والجهالة والكفر الأمريكية ليشهدوا بأعينهم تلك المواجهة
تحياتي
إرسال تعليق